الوحي نافذة على الحياة
كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يخلو بغار حراء فيمكث فيه.
فجاءه الملك وقال له: اقرأ.
قال محمد: ما أنا بقارئ.
قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ.
فقلت: ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ.
فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني.
فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق...
• الوحي والرسالة:
نحن لا نفهم الرسول حتى نفهم الرسالة أولاً...
فالرسول فرقه عن سائر الناس انه حامل الرسالة...
فما هي الرسالة إذن؟
أو الوحي الذي جعله القرآن مميزاً للرسول عن سائر البشر...
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ).
إن الله تعالى ـ لحكمة يعلمها ـ يرسل رسائله بوسائل خفية إلى الإنسان المختار للرسالة، بعد أن يودع فيه صلاحية التقاطها وفهمها.
فليس هناك من تصادم بالحقيقة بين مشاهداتنا وتجاربنا العلمية فهو واقع من الوقائع الكثيرة التي نشاهدها ونجربها في أمكنة وطرق مختلفة فلو كان إمكان وجدناه في شكل الواقع بعد التجربة...
• الوحي: علاقة الخالق بمخلوقاته:
(وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ).
الوحي: هي العلاقة التي تكون بين الخالق ومخلوقاته.
همس السماء للأرض... قانون الكمال والحياة الذي يودعه الله في الكائنات الطبيعية... نظام الحياة الذي ألهمه الله للأحياء...
(لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا).
أي قانون كمالها...
فكل مخلوق يختلف وضعه ومنهج حياته وقانون تطوره وتكامله فالحيوان مفطور على مجموعة غرائز هي قانون كماله وسيرته الطبيعية...
النحل مفطور على بناء خلية بشكل سداسي...
وعن طريق الغريزة والقانون المودع في النحل تعلم هذا الشكل في هندسة بيته وخليته...
وإلا متى وكيف تعلم النحل وفي أية كلية هندسة درس.
وهناك حقائق لا مرئية مبثوثة في كل أجزاء الكون...
وإذا كنا قد عجزنا سابقاً عن رؤية خط اتصال ساخن بين الله سبحانه وبين الرسول، فإننا اليوم نستطيع أن نفهم هذه المسألة بسهولة تامة بفضل كثير من الحقائق العلمية والتجارب...
• أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:
إن هناك وقائع كثيرة جداً تجري من حولنا في كل لحظة ونحن نعجز عن إدراكها أو سماعها أو الإحساس بها بواسطة أجهزتنا العصبية وقد استطاع العلم الحديث أن ييسر لنا إدراكها بفضل الأجهزة العلمية التي اخترعناها... هذه الأجهزة تستطيع أن تدل على صوب دباب طائر على بعد بضعة أميال وكأنه يطير عند أذنك.
ومن الأجهزة العلمية ما وصل التقدم فيه إلى حد أنها تسجل صدام الأشعة الكونية في الفضاء...
وإذا كان الإنسان يحتاج إلى استخدام الوسائل واختراع الآلات في إدراك بعض الأمور التي لا يمكن له سماعها بالطرق السمعية التقليدية...
كان هناك بعض الحيوانات مزودة بطاقة غير عادية وبأجهزة التقاط خارقة تختلف عن أجهزة الإنسان.
إن جهاز سماع الإنسان محدود جداً، ولكن أجهزة بعض الحيوانات تختلف كل الاختلاف...
فالكلب مثلاً: يستطيع أن يشم ريح الحيوان الذي مرّ في الطريق ويميز رائحة إنسان معين من بين مجموعة من الناس.
فالكلب البوليسي ـ المدرب ـ يشم القفل الذي كسره اللص ثم ينطلق مقتفياً أثر الرائحة التي وجدها عند القفل المكسور، وفجأة نراه يمسك باللص من بين الألوف...
وأما الطيور المهاجرة التي تهاجر في الخريف وتقطع الآلاف من الأميال وتعود إلى عشها كل ربيع، وهكذا النحلة التي تغادر بيتها وتذهب مسافات شاسعة بحثاً عن الأزهار ومصادر العسل، فإنها لا تضل طريقها إلى خليتها مهما طمست الريح في هبوبها من الأعشاب والأشجار...
وتوجد أنواع من الحيوانات والصقور وحتى الحشرات الدقيقة مزودة بعيون ميكروسكوبية (مكبرة).
والصقور لها عيون تلسكوبية (مكبرة ومقربة).
بينما الإنسان يمتاز ـ في هذه الناحية ـ بأدواته الميكانيكية ويسد هذه الحاجة بعقله فيرى الوسيم بالتلسكوب بقوة مضاعفة إلى مليون مرة ويرى بالميكروسكوب البكتريا غير المرئية...
... وهناك حيوانات كثيرة تسمع أصواتاً تخرج عن نطاق أسماعنا... فحشرة (العثة) وهي حشرة مجنحة عندما تضعها على نافذة مفتوحة، فستحدث صوتاً يسمعه زوجها على مسافة بعيدة جداً، ولسوف يجيبها هذا الزوج أيضاً بطريقته.
وحشرة (الجندب) يحك رجليه وجناحيه ويصوت بطريقة غير عادية ويسمع على بعد نصف ميل، وهو يحرك في هذه العملية ستمائة طن من الهواء ليدعو زوجته وهذه الزوجة ترسل أيضاً وهي ساكنة بلا حركة الجواب بنفس الطريقة وتخبره عن موقعها، فيحلق بها الذكر ويذهب إليها على العنوان الذي أعطته له...
فمادام في هذا الكون حركات وأصوات لسمعتها آذان الإنسان ولكن تلتقطها الآلات، وما دامت هناك رسائل محاورات تدركها الحيوانات دون أخرى.
بل أن تجارب الإشراق والانكشاف ومعرفة الغيب، توجد في الإنسان بالقوة ـ ولا تختص ببعض الحيوانات فقط ـ فلا نتصور هذا الإنسان مجرد جسد تحده عوامل الزمان والمكان كما يقول (الكسيس كاريل): (إن حدود الفرد في إطار الزمان، والمكان هي بمجرد افتراض).
فيستطيع عامل الإشراق أن يجعلك تنام وتضحك أو تبكي، كما يستطيع أن ينقل إليك كلمات أو خواطر لست على علم بها...
إنها عملية لا تستعمل فيها أية وسائل ولا يشعر بها غير عامل الإشراق وصاحبه.
لقد عرض العلماء نظريات عديدة لشرح هذه الصور من عملية الإشراق، ومنها أن أمواجاً تصدر من المخ وتنتشر في العالم أجمع بسرعة فائقة، ولذلك سموها بنظرية الموجة المخية.
• قصتان:
1ـ حدث سنة 1950 أن المسؤولين في (بافاريا) رفعوا قضية ضد رجل نمساوي اسمه (فرنترستروبيل) بتهمة التدخل في برامج الإذاعة عن طريق الإشراق.
وكان (فرنترستوبيل) يستعرض أعماله الخارقة في فندق (ريخنا) بميونخ عندما ناول أوراق (لعب الكوتشينة) إلى أحد المتفرجين وطلب إليه اختيار ورقة ما، وأدعى انه سوف ينقل اسم تلك الورقة واسم الفندق مع ترتيبها ـ كما في ذهن المتفرج ـ إلى المذيع الذي كان يقرا الأخبار من إذاعة ميونخ المحلية ذلك دون أن يعرف المذيع من نفسه شيئاً من هذا...
بعد ثوان سمع الناس صوت المذيع يرتعش وهو يقول: (فندق ريجنا ـ بنت البستوني) وكان الترتيب واسم الورق صحيحاً كما أراد المتفرج.وكان الارتعاش والوهبة واضحين في صوت المذيع، ولكنه واصل قراءة الأخبار ولكن استغرب الكثيرون من سكان ميونخ واتصل مئات منهم تلفونياً بالإذاعة يستفسرون عن السر الغامض، فكان من الصعب عليهم أن يدركوا علاقة الأخبار (بفندق ريجنا ـ بنت البستوني). وحضر طبيب الإذاعة للكشف على المذيع فوجده في حالة اضطراب خطير وأدلى المذيع ببيانه قائلاً: (إني شعرت بصداع شديد في رأسي ولا أعرف ماذا بعد ذلك).
2ـ كما أن تقابل الكون في صورة معينة قد طوع (لماركوني) أن يسلط تياراً كهربائياً خاصاً من سفينته التي كانت راسية البندقية وأن يضيء بقوة موجات الأثير مدينة (سدني) في استراليا.
... فلما كان الإنسان يستطيع تحويل الأفكار بكاملها إلى إنسان آخر ومن مكان بعيد جغرافياً وبدون استعمال واسطة مادية ظاهرية...
فلماذا تستحيل هذه العملية بين الإله وعباده؟!
إننا بعد الإيمان بالله والاطلاع على هذه التجارب الكثيرة بما في ذلك (الإشراق) لا نجد أساساً لإنكار الوحي والإلهام...
إن الإشراق كمظهر من مظاهر قابلية الإنسان وقواه الخارقة، ليس إلا قرينة تجريبية تجعلنا نفهم علاقة الألفاظ والمعاني التي تربط العبد بالله تعالى، عندما يرسل رسله وينزل رسالاته عليهم...
• ما هي الضرورة للوحي والرسالة
إن اكبر دليل على هذه الضرورة هو أن الأمر الذي يخبر عنه الرسول (صلّى الله عليه وآله) من أهم الأمور التي تتعلق بحياة الإنسان ومصيره والإنسان لا يستطيع أن يصل إلى تلك الحقائق الخاصة، انه يبحث منذ آلاف السنين عن حقيقة الكون كي يفهم أسرار بدء الحياة ونهايتها، حقائق تنظيم أجهزة الحياة حتى تستطيع الإنسانية أن تسير قدماً في طريق الخير والعدل والصلاح، ولم تكلل هذه الجهود بالنجاح إلى يوم الناس هذا...
فقد كشف الإنسان عن أسرار الحديد والبترول وتعرف على حقائق الطبيعة بعد جهد يسير، ولكنه عجز عن كشف (علم الإنسان) وسر وجوده، رغم أن جهود أعظم العقول البشرية تواصل البحث عن هذا العلم ولم تستطع حتى الآن تحديد مبادئه وأسسه، وأن هذا هو اكبر دليل على أن الإنسان يحتاج إلى هدى الله من أجل أن يعرف نفسه...
إن الإنسان المعاصر لم يفلح بعد في كشف سر الحياة.
ولا ريب أن عجز مجتمع العلم والصناعة عن إشباع الحاجات النفسية للإنسان يؤكد الفكرة التي تقول:
(إننا أعطينا أهمية غير عادية للعلوم المادية حين تركنا الإنسانية في مراحلها البدائية)...
ولا شك أن العلوم الحديثة قد فتحت مجالات أمام الإنسان ولكنها في نفس الوقت جعلت المسألة أكثر تعقيداً، ولم تساعد في حل الأزمة في أية مرحلة...
(إن الكون الذي كشفه العلم الحديث هو اكثر غموضاً وإبهاماً من التاريخ الفكري بأكمله، ولا شك في أن علمنا عن الطبيعة اكثر غزارة من أي عصر مضى، ولكن هذه المعلومات كلها غير مقنعة فنحن نواجه اليوم الإبهام والمتناقضات في كل ناحية).
ويقول (الكسيس كاريل):
(إن مبادئ الثورة الفرنسية وأفكار ماركس ولينين لا تنطبق إلا على الإنسان العقلي المثالي، ومن الواجب أن نشعر بصراحة تامة بأن قوانين العلاقات الإنسانية لم تكشف بعد، أما الاجتماع والاقتصاد وما أشبهها في علوم افتراضية محضة، بدون أدلة يمكن إثباتها بها).
• الوحي نافذتنا على أسرار الحياة:
فهذه الكارثة التي يقف أمامها الإنسان بعد بحث طويل في العلوم المادية عن أسرار الحياة تدلنا على أن إدراك سر الحياة ليتاح للإنسان...
إن أحوالنا تحتم علينا أن نعرف سر الحياة، إذ أننا لا نستطيع مواصلة الحياة في اكمل صورها دون معرفة هذا السر، ولذلك كان خير ما نتمنى بقلوبنا أن ندرك ذلك، ولا يرضى أسمى جزء في شخصيتنا أن يطمئن بدونه فحياتنا متبعثرة لفقداننا هذه الحقيقة...
سر الحياة هو من ضرورتنا الكبرى، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لا نستطيع أن نظفر به بجهودنا وحدها.
هذه الحالة وحدها تكفي لتبين حاجتنا الشديدة إلى الوحي فأهمية سر الحياة ثم خروج هذا السر من دائرة قوى الإنسان يدل على انه لابد أن تأتي المعرفة من الخارج أيضاً كالضوء والحرارة اللذين تتوقف عليهما حياة الإنسان، ولكنها هنا من الخارج...
يقول ابن سينا تحت عنوان: (حالة النفس الطاهرة لدى الأنبياء)...
(النفس الطاهرة هي النفس العاقلة لدى كبار الأنبياء وهي تدرك المعقولات دونما معلم أو كتاب، وهي برؤيتها ويقظتها ترتفع إلى عالم الغيب وتتلقى الوحي منه...
هذا الوحي هو الصلة ما بين الملائكة والنفس البشرية وهو الفاعل والمؤثر في مادة العالم والدافع إلى تحقيق المعجزات... وهي تلك المرتبة العليا من مراتب الإنسانية.
وهكذا فالكائن (النبي) الذي يملك مثل تلك النفس هو خليفة الله على الأرض...
والوحي لا ينقض العقل، بل ضروري ولا غناء عنه لديمومة الجنس البشري).
بالمناسبة...
يقال أن أحد تلاميذ ابن سينا قال لأستاذه يوماً:
لماذا لا تدعي النبوة، وأنت إنسان عبقري وفيلسوف وإذا ادعيت ذلك يصدقك الناس ويتبعك منهم كثيرون...
فقال ابن سينا سأعطيك الجواب بعدئذ.
وفي الليل كان الأستاذ وتلميذه نائمين في غرفة واحدة، وكانت ليلة من ليالي الشتاء الباردة، فانتبه ابن سينا من نومه لحظات قبل الفجر، وأيقظ تلميذه وطلب منه أن يجلب له كأساً من الماء لأنه عطشان، فتكاسل التلميذ أن يقطع نومه اللذيذ ويغادر فراشه الدافئ ويأتي بالماء، أخذ يتعذر لأستاذه بأن الماء مضر بالصحة في مثل هذا الوقت.
وفجأة ارتفع صوت المؤذن ـ في الخارج ـ يؤذن لصلاة الفجر.
فقال ابن سينا لتلميذه:
أنظر إلى هذا المؤذن الذي خرج في هذا الوقت البارد إلى المسجد امتثالاً لأمر ذلك الرجل الذي بعث للنبوة قبل ثلاث عشر قرناً وهذا المؤذن لم ير ذلك النبي ولم يشاهده.. بينما أنت تلميذي وأقرب الناس إليّ، فكيف تريد أن أدعي النبوة لسائر الناس؟!